إن ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية، معبراً عنه بالدولار الأمريكي، لا يقف عند برميل النفط، بل يتعداه إلى معظم السلع الملموسة الأخرى كالذهب والنحاس والقمح والشعير والأرز وغيرها. بطبيعة الحال، لا يمكن تقديم مبررات علمية صارمة حول الموضوع، إلا أن المراقب والمتابع لهذا الارتفاع، ومن خلال تحليل الكثير من الملاحظات والمعطيات، يستطيع تقديم بعض التفسيرات المنطقية حوله، الأمر الذي قد يساعد على فهم أسبابه وانعكاساته السلبية الكبرى وإجراءات مواجهته.
الأســباب:
يمكن القول أن هناك أسباب خارجية وأخرى داخلية وراء ارتفاع الأسعار في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية. وتتمثل الأسباب الخارجية، أو ما يطلق عليه البعض "بالتضخم المستورد" في ارتفاع أسعار النفط، وتراجع أسعار صرف الدولار الأمريكي أمام العملات الرئيسية الأخرى كاليورو والين الياباني والجنية الإسترليني.
ارتفاع أسعار النفط:
فقد ارتفعت أسعار النفط وشارفت على 100$ للبرميل، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار كثير من السلع إضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل. ويعزى الارتفاع في أسعار النفط إلى المخاطر الجيوسياسية وخاصة الأزمة الإيرانية الأمريكية، والمخاطر اللوجستية والمتمثلة في المشاكل والصعوبات المتوقعة في امدادت النفط وخاصة في هذا الشتاء. وفي الآونة الأخيرة، زاد الطلب على الوقود في الولايات المتحدة بسبب تفاقم أزمة الرهن العقاري وتراجع أسعار صرف الدولار، كما زادت توقعات الطلب عليه الأمر الذي رفع من أسعاره وتوقع استمرار هذا الارتفاع.
تراجع أسعار صرف الدولار:
تراجعت أسعار صرف الدولار الأمريكي أمام بعض العملات الرئيسية الأخرى، وخاصة اليورو والين الياباني والجنية الإسترليني، مما أدى إلى انخفاض قيمته إلى معدلات غير مسبوقة. فمنذ العام 1999، انخفضت قيمته حوالي 40% أمام اليورو. ويمكن إرجاع هذا التراجع إلى العجز في الميزان التجاري الأمريكي ( حيث وصل هذا العجز في العام المنصرم إلى حوالي 800 مليار دولار) والعجز في الموازنة الأمريكية ( وصل إلى حوالي 200 مليار دولار) وزيادة حجم الديون على الولايات المتحدة ( حوالي 9 ترليون دولار) وأزمة الرهن العقاري وتبعاتها على الاقتصاد الأمريكي والعالمي، إضافة إلى الانخفاض المتتالي في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة. ولقد أدى الانخفاض في أسعار صرف الدولار إلى نمو التضخم في الولايات المتحدة والعالم وخاصة إذا ما أخذ في الاعتبار أن أسعار النفط وأغلب المبادلات التجارية والاحتياطيات من العملات الصعبة هي في معظمها بالدولار الأمريكي.
أسباب موضوعية:
الآ أن هناك أسبابا أخرى يتناولها البعض حول موضوع ارتفاع الأسعار والتضخم ويمكن الإشارة إليها
"الأسباب الموضوعية" والتي تتمثل في ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية للعملات الورقية في العالم. ويؤكد هذا التوجه أن كثير من السلع الملموسة والتي يجري التداول بعقودها في الأسواق العالمية كالمعادن والقمح والشعير وغيرها ارتفعت أسعارها بمعدلات تفوق انخفاض الدولار.
أسباب داخلية:
هناك أسباب داخلية لارتفاع الأسعار في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، والذي يطلق عليه البعض
" التضخم المحلي"، وهذا ينطبق على الكثير من الدول النامية. ويتمثل ذلك في أنه نتيجة للضجة التي أثيرت حول موضوع الغلاء وارتفاع الأسعار إعلامياً وثقافياً وسلوكياً وغير ذلك، وكذلك نتيجة للتوقعات بارتفاعات وشيكة في أسعار كثير من السلع، وما رافق ذلك من انخفاض في أسعار الفائدة، خلقت أجواء الغلاء التي تحقق ذاتها، الأمر الذي دفع باتجاه رفع الأسعار فعلاً ( وخاصة في شهر أيلول) وزاد الإقبال على الموجودات الملموسة ( ارتفعت أسعار الأسهم مثلاً)، ناهيك عن ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع المحروقات وتكاليف النقل.
الانعكاسات على مناطق السلطة:
تتأثر مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية بارتفاع الأسعار والتضخم أكثر من غيرها من البلدان العربية، وذلك نظراً لخضوع هذه المناطق لاتفاقات اقتصادية ظالمة ومنقوصة مع الجانب الإسرائيلي (بروتوكول باريس الاقتصادي عام 1993) عدا عن كونها عديمة الموارد، وتفتقر للقاعدة الإنتاجية، ومعظم سكانها من العمال والموظفين والأجراء والمتقاعدين والطلاب، وتمتاز بنسب عالية من الواردات من السلع والخدمات وخاصة الرئيسية كالقمح والشعير والمحروقات، وتعتمد على المساعدات العربية والدولية بشكل كبير، إضافة الى أنها تعاني من معدلات غير مسبوقة في الفقر والبطالة.
وفي ظل هذه المعطيات، ونظراً لكون مستويات الدخول في مناطق السلطة لا تتناسب مع المتغيرات في مستوى الأسعار، يمكن القول أن الانعكاسات السلبية الكبرى للتضخم ستكون على العمال والموظفين والأجراء والمتقاعدين، أي على الفقراء والطبقة الوسطى، بمعنى أن الطبقة الوسطى ستتحول إلى فقراء والفقراء أصلاً سيعيشون في فقر مذقع.
سياسات وإجراءات مطلوبة:
يمكن الخوض في بعض السياسات والإجراءات التي يمكن اتخاذها كلها أو بعضها وعلى جميع المستويات لمواجهة الانعكاسات السلبية الكبيرة لارتفاع الأسعار. فعلى المستوى الشعبي أو الأهلي، لا بد من ترشيد الاستهلاك وخاصة بالنسبة للطبقة الوسطى، حيث أن هناك مجالات يمكن الإشارة إليها في هذا السياق، وخاصة الاتصالات الأرضية والخلوية والمحروقات والكهرباء والمياه. أما على المستوى الحكومي أو الرسمي، فإنه من المؤكد ان جميع السياسات والإجراءات التي قد تتخذها الحكومة للحد من آثار الغلاء والتضخم ستؤثر سلباً على برامج الإصلاح الاقتصادي ( إن وجدت أصلاً) وتتعارض مع بعض التوجهات لدى البنك الدولي، إلا أن مسؤولية الحكومة تجاه الشعب والمواطنين تتطلب المباشرة بسياسات وإجراءات منها:
زيادة الأجور في القطاعين العام والخاص.
خفض رسوم بعض المرافق العامة، وخاصة تلك التي يمكن ملاحظة آثارها على الفقراء والطبقة الوسطى والمنتجين.
خفض الرسوم الجمركية، وضريبة القيمة الإضافية وخاصة على تلك السلع والخدمات التي ارتفعت أسعارها بشكل كبير وتشكل نسبة مهمة من إنفاق الفقراء والطبقة الوسطى.
دعم بعض السلع الرئيسية.
المباشرة بالعمل على إصدار بطاقات التموين للفقراء ( الكوبونات) .
توفير الدعم الحقيقي الكمي والنوعي لكل من الجانب الصحي والتعليمي والاجتماعي.
بدء الاستثمار، بالاشتراك مع القطاع الخاص، في البنية التحتية التي تتعلق بالمخزون الاستراتيجي للسلع الأساسية.
الترشيد الحقيقي لنفقات القطاع العام.
إن ما سبق ( بعضه أو كله) يتطلب بالأساس دعوة المجتمع الدولي والدول العربية إلى تحمل المسوؤلية تجاه الشعب الفلسطيني وسلطته بزيادة الدعم المالي والاقتصادي والسياسي، خاصة في ظل الاتفاقات الاقتصادية المنقوصة والظالمة مع الجانب الإسرائيلي، وفي ظل ارتفاع العائدات النفطية العربية. وفي هذا السياق، لا بد من دعوة الدول العربية النفطية إلى توفير النفط والمحروقات بالمجان لإخوانهم الفلسطينيين من خلال ترتيبات واتفاقيات سياسية واقتصادية وفنية ولوجستية عربية ودولية وإسرائيلية، حيث يجب على السلطة الوطنية الفلسطينية المباشرة بطرح هذا الموضوع وعلى كافة المستويات.
كلية الاقتصاد والمعلوم